فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قال علماؤنا رحمة الله عليهم: نَعتَ الله تعالى أحبارهم بأنهم يبدّلون ويحرّفون فقال وقوله الحق: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] الآية.
وذلك أنه لما درس الأمر فيهم، وساءت رعيّة علمائهم، وأقبلوا على الدنيا حِرْصًا وطمعًا، طلبوا أشياء تصرف وجوه الناس إليهم، فأحدثوا في شريعتهم وبدّلوها، وألحقوا ذلك بالتوراة، وقالوا لسفهائهم: هذا من عند الله؛ ليقبلوها عنهم فتتأكد رياستهم وينالوا به حطام الدنيا وأوساخها.
وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: ليس علينا في الأُمِّيين سبيل؛ وهم العرب، أي ما أخذنا من أموالهم فهو حِلّ لنا.
وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: لا يضرّنا ذنب، فنحن أحبّاؤه وأبناؤه؛ تعالى الله عن ذلك! وإنما كان في التوراة يا أحباري ويا أبناء رسلي فغيّروه وكتبوا يا أحبّائي ويا أبنائي فأنزل الله تكذيبهم: {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} [المائدة: 18].
فقالت: لن يعذّبنا الله، وإن عذّبنا فأربعين يومًا مقدار أيام العجل؛ فأنزل الله تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا} [البقرة: 80].
قال ابن مِقْسم: يعني توحيدًا، بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} [مريم: 87] يعني لا إله إلا الله {فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80].
ثم أكذبهم فقال: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81- 82].
فبيّن تعالى أن الخلود في النار والجنة إنما هو بحسب الكفر والإيمان؛ لا بما قالوه. اهـ.

.قال ابن عطية:

و{أميون} هنا عبارة عن جهلة بالتوراة، قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما: المعنى ومن هؤلاء اليهود المذكورين، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم، أي إنهم ممن لا يطمع في إيمانهم لما غمرهم من الضلال، وقيل: المراد هنا بالأميين قوم ذهب كتابهم لذنوب ركبوها فبقوا أميين، وقال عكرمة والضحاك: هم في الآية نصارى العرب، وقيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه قال: هم المجوس. والضمير في {منهم} على هذه الأقوال هو للكفار أجمعين، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقول أبي العالية ومجاهد أوجه هذه الأقوال، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة {أميون} بتخفيف الميم، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب، نسب إلى الأم: إما لأنه بحَال أمه من عدم الكتاب لا بحال أبيه، إذ النساء ليس من شغلهن الكتاب، قاله الطبري، وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها لم ينتقل عنها، وقيل نسب إلى الأمة وهي القامة والخلقة، كأنه ليس له من الآدميين إلا ذلك، وقيل نسب إلى الأمة على سذاجتها قبل أن تعرف المعارف، فإنها لا تقرأ لا تكتب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في العرب: «إنا أمة أميّة لا نحسب ولا نكتب»، والحديث: والألف واللام في {الكتاب} للعهد، ويعني به التوراة في قول أبي العالية ومجاهد. والأماني جمع أمنية، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع في بعض ما روي عنه {أماني} بتخفيف الياء، وأصل أمنية أمنوية على وزن أفعولة، ويجمع هذا الوزن على أفاعل، وعلى هذا يجب تخفيف الياء، ويجمع على أفاعيل فعلى هذا يجيء أمانيي أدغمت الياء في الياء فجاء {أماني}.
واختلف في معنى {أماني}، فقالت طائفة: هي هنا من تمني الرجل إذا ترجى، فمعناه أن منهم من لا يكتب ولا يقرأ وإنما يقول بظنه شيئًا سمعه، فيتمنى أنه من الكتاب، وقال آخرون: هي من تمنى إذا تلا، ومنه قوله تعالى: {إلا إذا ألقى الشيطان في أمنيته} [الحج: 52] ومنه قول الشاعر كعب بن مالك: الطويل:
تمنى كتاب الله أول ليله ** وآخرة لاقى حمام المقادِرِ

فمعنى الآية أنهم لا يعلمون الكتاب إلا سماع شيء يتلى لا علم لها بصحته، وقال الطبري: هي من تمنى الرجل إذا حدث بحديث مختلق كذب، وذكر أهل اللغة أن العرب تقول تمنى الرجل إذا كذب واختلق الحديث، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت.
فمعنى الآية أن منهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أنهم يسمعون من الأحبار أشياء مختلقة يظنونها من الكتاب، وإن نافية بمعنى ما، والظن هنا على بابه في الميل إلى أحد الجائزين. اهـ.

.قال البيضاوي:

{وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب} جهلة لا يعرفون الكتابة فيطالعوا التوراة، ويتحققوا ما فيها. أو التوراة {إِلاَّ أَمَانِيَّ} استثناء منقطع. والأماني: جمع أمنية وهي في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر، ولذلك تطلق، على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ والمعنى لكن يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليدًا من المحرفين أو مواعيد فارغة. سمعوها منهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودًا، وأن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودة. وقيل إلا ما يقرأون قراءة عارية عن معرفة المعنى وتدبره من قوله:
تَمَنَّى كِتَابَ الله أَوَّلَ لَيْلِه ** تَمني دَاودَ الزبُورَ على رِسْلِ

وهو لا يناسب وصفهم بأنهم أميون.
{وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} ما هم إلا قوم يظنون لا علم لهم، وقد يطلق الظن بإزاء العلم على كل رأي واعتقاد من غير قاطع، وإن جزم به صاحبه: كاعتقاد المقلد والزائغ عن الحق لشبهة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ}.
قال ابن عطية: الأميون عامة اليهود وأتباعهم لا بطمع في إيمانهم.
قال ابن عرفة: يؤخذ منه ذم التقليد لكن في الباطل، ولا نزاع فيه.
ابن عطية: وقيل: قوم ذهب كتابهم.
وقيل: نصارى العرب.
وعن عليّ هم المجوس.
واستبعده ابن عرفة لأنهم لا كتاب لهم، وقد جعلهم منهم.
ووجهه ابن عطية: بأن الضمير في {مِنْهُم} على هذا يرجع للكفار أجمعين لا أنه خاص بأهل الكتاب.
قال أبو حيان: والاستثناء منفصل.
قال الطيبي: يعلمون بمعنى يعرفون.
ولا يصح أن تكون {أَمَانِيَّ} مفعولا ثانيا لها لأن عَلِمَ المتعدية إلى اثنين داخله على المبتدأ والخبر والكتاب ليس هو الأماني بل غيرها.
ورده ابن عرفة بأن ذلك إنما هو في الإثبات، وأما في النفي فيجوز أن تقول: لا أعلم زيدا حمارا.
قيل له: هذا الثاني مثبت ولا يجوز أن تقول: لا أعلم زيد إلا حمارا؟
فقال: الأَمَانِي هنا في معنى النفي إذ ليس المراد إلا النفي المطلق.
قال ابن عرفة: والأَمَانِيّ، إمّا بمعنى التلاوة أي لا يعلمون معنى الكتاب بل يحفظون ألفاظه فقط، وأنشدوا عليه قولا في عثمان:
تمنّى كتاب الله أول ليله ** وآخره لاقى حمام المقاد

وإِمَّا معنى التمني أي أنهم يتمنون أن يكونوا يحفظونه ويعلمونه.
قلت: وتقدم لنا في الختمة الأخرى أنه من تأكيد الذّم بما يشبه المدح كقوله:
هو الكلب إلاّ أنّ فيه ملالة ** وسوء مراعاة وما ذاك في الكلب

وعكسه كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

قوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}.
ابن عطية: الظن على بابه.
ونقل عن الشيخ أبي علي ناصر الدين أنه معنى يَشُكونَ.
وردّه ابن عرفة: بأن فروع الشريعة عندنا يكفي فيها الظنّ والأمور الاعتقادية لابد فيها من العلم وهذا أمر اعتقادي فالظن فيه غير كاف فلذلك سجل عليهم بوصف الظنّ دون الاتصاف بالعلم فلا يحتاج إلى جعله بمعنى الشك. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ}.
أي: لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها من دلائل النبوة، فيؤمنوا {لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} أي: التوراة، أي: لا يدرون ما فيها من حدود وأحكام ومواثيق: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} بالتشديد جمع أمنية، أصلها أُمْنٌوْيَة أُفْعُوْلَة فأعلَّت إعلال سيّد، وميّت. مأخوذة من تمنَّى الشيء: قدّرة وأحب أن يصير إليه. أو من تمنَّى: كذب. أو من تمنَّى الكتاب: قرآه. وعلى كلٍّ فالاستثناء منقطع؛ إذ ليس ما يُتمنى، وما يُختلق وما يُتلى، من جنس علم الكتاب أي: لا يعلمون الكتاب. لكن يتمنون أمانيّ حسبما منَّتْهم أحبارهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وغير ذلك من أمانيهم الفارغة، المستندة إلى الكتاب، على زعم رؤسائهم. أو لا يعلمون الكتاب، لكن أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم، فتقبلوها على التقليد. أو لا يعلمون الكتاب لكن يتلقونه قدر ما يتلى عليهم، فيقبلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر والتأمل فيه.
قال ابن جرير: وأولى ما روينا في تأويل قوله: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} أن هؤلاء الأميين لا يفقهون، من الكتاب الذي أنزله الله، شيئًا. ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقوّلون الأباطيل كذبًا وزورًا. والتمني في هذا الموضع هو تخلقّ الكذب وتخرّصه وافتعاله. بدليل قوله تعالى بعدُ: {إن هم إلا يظنون} فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظنًا منهم، لا يقنيًا.
وقال أبو مسلم الأصفهانيّ: حمله على تمني القلب أولى. بدليل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111] أي: تمنيهم. وقال الله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، وقال: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] بمعنى يقدّرون ويخرصون.
ورجح كثيرون حمله على القراءة، كقوله تعالى: {ذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] إذ في الاستثناء، حينئذًا، نوع تعلق بما قبله. فيكون أليقَ في طريقة الاستثناء. و: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} ما هم إلاّ قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد. من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم. فأنى يُرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين؟
تنبيه:
قال الراغب: قد أنبأ الله عن جهل الأميين وذمهم، والمبالغة في ذم علمائهم وأحبارهم؛ فإن الأميين لم يعرفوا إلا مجرد التلاوة، واعتمدوا على زعمائهم وأحبارهم، وهم قد ضلوا وأضلوا، ونبهنا الله تعالى بذم الأميين، على اكتساب المعارف لئلا يُحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه، وبذم زعمائهم، على تحريّ الصدق وبجنب الإضلال؛ إذ هو أعظم من الضلال.
ولما بين حال هؤلاء في تمسكهم بحبال الأماني واتباع الظن، عقب ببيان حال الذين أوقعوهم في تلك الورطة، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله، وأكل أموال الناس بالباطل، فقيل على وجه الدعاء عليهم. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}.
الله سبحانه وتعالى لازال يتحدث عن أهل الكتاب.. فبعد أن بين لنا الذين يقول: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}.. انتقل سبحانه وتعالى إلى طائفة أخرى وهم من أسماهم بالأميين.. وأصح قول في الأمي هو أنه كما ولدته أمه. أي لم يعلم شيئًا من ثقافة وعلم في الوجود منذ لحظة نزوله من بطن أمه. ولذلك فإن الأمي على إطلاقه هو الذي لا يكتسب شيئًا من ثقافة الوجود حوله، بصرف النظر عن أن يقال كما ولدته أمه.. لأن الشائع في المجتمعات أن الذي يعلم هم الخاصة لا العامة.. وعلى أية حال فالمعاني كلها ملتقية في تعريف الأمي.
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ}.. تلاحظ أن هناك معسكرات من الأميين واجهت الدعوة الإسلامية.. فالمعسكر الأول كان المشركين في مكة، والمعسكر الثاني كان أهل الكتاب في المدينة. وأهل الكتاب تطلق على أتباع موسى وأتباع المسيح.. ولكن في الجزيرة العربية كان هناك عدد لا يذكر من النصارى.. وكان هناك مجتمع. والمقصود من قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} هم اليهود الذين كان لهم مجتمع في المدينة.. ومادام الحق سبحانه وتعالى قال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ}.. معنى هذا أنه لابد أن يكون هناك منهم غير أميين.. وهؤلاء هم الذين سيأتي قول الله تعالى عنهم في الآية التالية: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79].
هنا قسّم الله تبارك وتعالى اليهود إلى أقسام.. منهم قسم أُمِّي لا يعرفون الكتاب وما يقوله لهم أحبارهم هو الذي يعرفونه فقط.. وهؤلاء ربما لو كانوا يعلمون ما في التوراة.. من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم لآمنوا به.. والكتاب هنا يقصد به التوراة.. والله سبحانه وتعالى لم ينف عنهم مطلق العلم.. ولكنه نفى خصوصية العلم، لأنه قال لا يعلمون إلا أماني.. فكأن الأماني يعلمونها من الكتاب.
ولكن ما الأماني؟.. إنها تطلق مرة بدون تشديد الياء ومرة بتشديد الياء.. فإن كانت التخفيف تكون جمع أمنية.. وإن كانت بالتشديد تكون جمع أمنية بالتشديد على الياء.. الأمنية تجدها في القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123].
هذه بالنسبة للجمع. أما بالنسبة للمفرد.. في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52].
ما هي الأمنية؟.. الأمنية هي الشيء الذي يحب الإنسان أن يحدث ولكن حدوثه مستحيل.. إذن لن يحدث ولن يكون له وجود.
ولذلك قالوا إن من معاني التمني اختلاق الأشياء.. الشاعر الذي قال:
أَلا لَيْتَ الشَّبابَ يعودُ يومًا ** فَأُخْبِرُهُ بما فَعَلَ المَشِيبُ

هل الشباب يمكن أن يعود؟.. طبعًا مستحيل.. هذا شيء لن يحدث.. والشاعر الذي قال:
لَيْتَ الكواكبَ تَدْنُو لِي فَأَنْظمَهَا ** عُقُودَ مَدْحٍ فَما أَرْضَى لَكُمْ كَلِمِ

هل النجوم ستنزل من السماء وتأتي إلى هذا الشاعر.. ينظمها أبيات شعر إلى حبيبته.. إذن من معاني التمني الكذب والاختلاق. ولقد فسر بعض المستشرقين قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى} أي قرأ: {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي في قراءته. وطبعا الشيطان لن يلقي في قراءة الرسول إلا كذبا وإفتراء وكفرا.. إقرأ قوله سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 19- 22].
قال أعداء الإسلام مادام قد ذكر في القرآن أسماء الغرانيق.. وهي الأصنام التي كان يعبدها الكفار.. ومنها اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.. إذن فشفاعة هذه الأصنام ترتجى في الآخرة.. وهذا كلام لا ينسجم مع منطق الدين كله يدعو لعبادة الله وحده.. وخرج المستشرقون من ذلك بأن الدين فعلا يدعو لعبادة الله وحده.. إذن فيكون الشيطان قد ألقى في أمنيته فيما يقوله رسول الله.. ثم أحكم الله سبحانه آياته فقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [النجم: 23].
هم يريدون بذلك أن يشككوا.. في أنه من الممكن أن يلقي الشيطان بعض أفكاره في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولكن الله سبحانه ينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم آياته.
إن الله جل جلاله لم يترك وحيه لعبث الشيطان.. ولذلك سنبحث الآية بعيدًا عن كل ما قيل.. نقول لو أنك تنبهت إلى قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى} لو قلنا تمنى بمعنى قرأ، ثم أن الله ينسخ ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته.. إذن هو سبحانه لن يترك رسوله يخطئ.. وبذلك ضمنا أن كل ما ينتهي إليه الرسول صواب.. وأن كل ما وصلنا عن الرسول محكم.. فنطمئن إلى أنه ليس هناك شيء يمكن أن يلقيه الشيطان في تمني الرسول ويصلنا دون أن ينسخ.
فإذا قلنا: إن الله ينسخ ما يلقي الشيطان فما الذي جعلكم تعرفون ما ألقاه الشيطان مادام رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل لكم إلا المحكم.. ثم من هو الرسول؟ بَشَرٌ أُوحِيَ إليه بمنهج من السماء وأمر بتبليغه.. ومن هو النبي؟.. بشر أوحي إليه بمنهج.
ولم يؤمر بتبليغه.. ومادام لم يؤمر بتبليغه يكون خاصا بهذا النبي.. ويكون النبي قدوة سلوكية.. لأنه يطبق منهج الرسول الذي قبله فهو لم يأت بجديد.
الآية الكريمة جاءت بكلمتي رسول أو نبي.. إذا كان معنى أمنية الشيطان مستقيما بالنسبة للرسول فهو غير مستقيم بالنسبة للنبي.. لأن النبي لا يقرأ شيئًا، ومادام النبي ذكر في الآية الكريمة فلابد أن يكون للتمني معنى آخر غير القراءة.. لأن النبي لم يأت بكلام يقرؤه على الناس.. فكأنه سيقرأ كلاما محكما ليس فيه أمنية الشيطان أي قراءته.
إن التمني لا يأتي بمعنى قراءة الشيطان.. وأمنية الرسول والنبي أن ينجحا في مهمتهما.. فالرسول كمبلغ لمنهج الله، النبي كأسوة سلوكية.. المعنى هنا يختلف.. الرسول أمنيته أن يبلغ منهج الله.. والشيطان يحاول أن ينزع المنهج من قلوب الناس.. هذا هو المعنى.. والله سبحانه وتعالى حين يحكم آياته ينصر الإيمان ليسود منهج الله في الأرض وتنتظم حركة الناس.. هذا هو المعنى.
وكلمة تمني في هذه الآية الكريمة بمعنى أن الرسول أو النبي يحب أن يسود منهجه الأرض.. والشيطان يلقي العراقيل والله يحكم آياته وينصر الحق. ويجب أن نفهم الآية على هذا المعنى.. وبهذا ينتفي تماما ما يدعيه المستشرقون من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان يقرأ ما يوحى إليه يستطيع الشيطان أن يتدخل ويضع كلاما في الوحي.. مستحيل.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} معناها أنه يأتي قوم لا يعرفون شيئًا عن الكتاب إلا ظنا.. فيصدقهم هؤلاء الأميون دون علم.. وكان الله سبحانه يريد أن يلفتنا إلى أن كثيرا من المذاهب الدينية في الأرض ينشأ عن المبلغين لها.. فهناك أناس يأتمنون آخرين ليقولوا لهم ما إنتهت إليه الأحكام الدينية.. فيأتي الأمي أو غير المثقف يسأل عالما عن حكم من الأحكام الشرعية.. ثم يأخذ منه الحكم ويطبقه دون أن يناقشه.. لأن علمه قد إنتهى عند السؤال عن الفتوى.. والحق سبحانه وتعالى كما يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
أي لا يحمل أحد ذنب أحد يوم القيامة.. فيقول تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25].
بعض الناس يظن أن الآيتين بينهما تعارض.. نقول لا.. ومن يرتكب إثما يحاسب عليه.. ومن يضل غيره بفتوى غير صحيحة يحل له بها ما حرم الله.. فإنه يحمل معاصيه ومعاصي من أضل.. فيكون له وزر لأنه ضل، ووزر لأنه أضل غيره.. بل وأكثر من ذلك.. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا».
ولابد أن نتنبه إلى خطورة الفتوى في الدين بغير علم.. الفتوى في الدنيا أقصى ما يمكن أن تؤدي إليه هو أن تجعلك تخسر صفقة.. لكن الفتوى في الدين ستدوم عمرا طويلا.
الحق تبارك وتعالى يقول: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} والظن كما قلنا هو نسبة راجحة ولكن غير مؤكدة.. وإذا كان التمني كما ورد في اللغة هو القراءة.. فهؤلاء الأمِّيون لا يعلمون الكتاب إلا قراءة لسان بلا فهم.. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى عن اليهود: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5].
وهكذا نرى أن هناك صنفا يحمل التوراة وهو لا يعرف عنها شيئا.. والله جل جلاله قال إن مثله كالحمار.. ولكن أقل من الحمار، لأن الحمار مهمته أن يحمل الأثقال.. ولكن الإنسان ليست مهمته أن يحمل ما يجهل.. ولكن لابد أن يقرأ الكتاب ويعلم المطلوب منه. اهـ.